اهمية اللقاح البكتيري للبقوليات في العراق

اهمية اللقاح البكتيري للبقوليات في العراق

اهمية اللقاح البكتيري للبقوليات في العراق


 

 

 

 

 

بقلم: ا.د. تركي مفتن سعد

مساعد رئيس الجامعة للشؤون الادارية
تزداد الحاجة في العراق إلى حلول زراعية مستدامة تُحسّن الإنتاجية وتُقلّل الاعتماد على الأسمدة الكيمياوية مرتفعة الكلفة والآثار البيئية، وهنا يبرز اللقاح البكتيري للبقوليات بوصفه تقنية بسيطة وفعّالة تعيد إلى التربة حيويتها وتمنح النبات قدرةً أكبر على النمو في ظروف مناخية وتربوية قاسية. تقوم فكرة اللقاح على تزويد بذور المحاصيل البقولية—كالحمص والعدس والفول والباقلاء وفول الصويا واللوبيا—بسلالات منتقاة من بكتيريا العقد الجذرية القادرة على تكوين علاقة تكافلية مع الجذور. داخل تلك العقد الوردية اللون يتشكّل إنزيم النيتروجيناز الذي يثبّت النيتروجين الجوي ويحوّله إلى صورة عضوية يستفيد منها النبات، فتزداد مسطحاته الخضرية وإنتاجه من القرون والبذور دون حاجةٍ كبيرة إلى إضافة اليوريا أو نترات الأمونيوم.

أهميّة هذه التقنية في العراق مضاعفة لسببين. الأول اقتصادي مباشر يتمثل في خفض كلفة التسميد النيتروجيني، وهو من أكبر بنود الإنفاق لدى المزارعين، وكثيرًا ما يعيق التوسع في زراعة البقوليات. فعندما تتلقح البذور بالسلالات الملائمة لمحصولها ولبيئة حقول العراق، تحصل النباتات على حاجتها الأساسية من النيتروجين من الهواء نفسه، فيتراجع الاعتماد على الأسمدة المستوردة وتقِلّ حساسية المزارع لتقلّبات الأسعار. أما السبب الثاني فبيئي–زمني، إذ إن تثبيت النيتروجين بيولوجيًا يحدّ من الفاقد والغسل ويخفض احتمالات تملّح التربة وتدهورها، كما يحسّن خصوبتها على المدى البعيد لكون جزء من النيتروجين يبقى في بقايا الجذور والقش، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على المحاصيل اللاحقة في الدورة الزراعية كالحبوب.

تتجلّى ميزة اللقاح البكتيري أيضًا في ملاءمته للظروف المحلية. يواجه العراق تحديات متزايدة من الملوحة والجفاف وارتفاع درجات الحرارة وتقلبات مواعيد الأمطار، وهذه العوامل تضعف الكائنات الدقيقة الطبيعية في التربة وتحدّ من قدرتها على تكوين عقد فعّالة. استخدام لقاحات تحتوي على سلالات متحملة للملوحة والحرارة، ومختبرة ميدانيًا في الأراضي العراقية، يساعد على تجاوز هذا القيد ويضمن بدايةً سريعة لجذور النبات حتى في الترب المتعبة. وتظهر الاستجابة بصورة أوضح في الحقول التي لم تُزرع بالبقوليات منذ سنوات، إذ تكون كثافة البكتيريا التكافلية منخفضة، فيأتي اللقاح ليعوض هذا النقص ويعيد بناء مجتمعٍ ميكروبي نافع حول الجذور.

يعتمد نجاح اللقاح على تفاصيل صغيرة لكنها حاسمة. أفضل الممارسات تبدأ باختيار منتجٍ موثوق غير منتهي الصلاحية وحفظه بعيدًا عن الحرارة المباشرة، ثم خلطه بمادة لاصقة بسيطة ووضعه على البذور قبل الزراعة مباشرة مع تجنّب خلطه بمواد مطهّرة للبذور قد تقتل البكتيريا. بعد الزراعة ينبغي الحفاظ على رطوبة التربة الكافية في الأيام الأولى لضمان وصول البكتيريا إلى الشعيرات الجذرية وتكوين العقد. وبعد أسابيع قليلة، يمكن ملاحظة العقد الوردية عند شقّها بالسكين، وهذا اللون علامة على فعالية إنزيم التثبيت. ومن المفيد أن تُرفق عملية التلقيح بقدرٍ معتدل فقط من السماد النيتروجيني في بداية النمو إن لزم، لأن الإفراط في النترات يثبط تكوين العقد ويقلل من استفادة النبات من اللقاح.

الأثر الميداني لهذه التقنية يتعدّى زيادة الغلة الفردية ليشمل إدارةً أفضل للدورة الزراعية بأكملها. حين تدخل البقوليات الملقحة في تناوبٍ مع القمح أو الشعير مثلًا، تتحسن خصوبة التربة وتزداد كفاءة استخدام الماء والغذاء، فيقلّ ما يحتاجه المحصول التالي من نيتروجين صناعي. كما يخفّ الضغط البيئي الناتج عن انبعاثات تصنيع الأسمدة ونقلها، وتتراجع مخاطر تسرّب النترات إلى المياه الجوفية. وفي مناطق السهل الرسوبي والجزء الجنوبي من البلاد، حيث تتعايش الملوحة والجفاف الموسميان، يمهّد تعزيز الحياة الميكروبية النافعة حول الجذور لتحمّلٍ أفضل للإجهاد ولبداية نمو أكثر توازنًا، وهو ما يترجم غالبًا إلى قرونٍ ممتلئة وبذورٍ أعلى وزنًا.

على المستوى البحثي والتطبيقي، تمثّل اللقاحات البكتيرية فرصةً لتلاقي الجامعات ومراكز البحث مع دوائر الإرشاد الزراعي والقطاع الخاص. تطوير بنوك سلالات محلية من جنس Rhizobium وBradyrhizobium وMesorhizobium متكيّفة مع تربة العراق ومناخه، مع ضبط الجودة الجرثومية للمنتج النهائي، يضمن استقرار النتائج ويقوّي ثقة المزارعين. وتُعزّز الحقول الإرشادية والتجارب المقارنة—التي تُظهر الفرق بين البذور الملقحة وغير الملقحة في القرية نفسها—قابلية تبنّي التقنية، خاصة إذا اقترنت ببرامج دعم صغيرة لتأمين اللقاح في مواسم الذروة وأسعارٍ في متناول صغار المزارعين.

يبقى الربح الأهم من اعتماد اللقاح البكتيري للبقوليات هو بناء زراعةٍ عراقية أكثر كفاءة واستدامة. فبدلًا من سباقٍ مرهق خلف المدخلات الكيمياوية، يصبح الهواء مصدرًا للغذاء، وتتحوّل البكتيريا الصديقة إلى شريكٍ خفي يُغذّي النبات ويُخصّب التربة. ومع كل موسم تتكرّس فوائدٌ تراكمية: تربةٌ أطيب حياةً، ومحاصيلُ أوفر عائدًا، ومزارعٌ أقدر على مواجهة تقلبات السوق والمناخ بموارد أقل وهدرٍ أقل. وهكذا يغدو اللقاح البكتيري خيارًا علميًا عمليًا، لا مجرد توصية نظرية، لكل مَن يريد أن يرى في حقول العراق زراعةً ذكيةً تحترم البيئة وتكافئ الجهد وتزرع في الأرض خصوبةً وفي الناس أملًا.