البلاغة في لغة القران الكريم
بقلم : ا.م.د. ندى سامي ناصر
عميد كلية التربية
تُعدّ البلاغة في لغة القرآن ميدانًا يتداخل فيه اللسانيّ بالنقديّ، ويجتمع فيه علم المعاني والبيان والبديع تحت سقف “النَّظم” بوصفه المبدأ الجامع لوحدة التعبير ودلالة السياق. فالقرآن لا يقدّم بلاغته على هيئة زخرف لفظيّ مستقل، بل يُنظّم العناصر الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية في شبكة محكمة تؤدّي المعنى بأقصر طريق وأبلغ أثر. ولهذا رأى عبد القاهر الجرجاني أن موضع الإعجاز ليس في المفردة معزولةً، بل في علاقاتها حين تُؤلَّف وتُرتَّب، حيث تتولد الدلالة من صوغ العلاقات لا من تجاور الكلمات فحسب.
يبدأ التشكيل البلاغي من المستوى الصوتي، حيث تتآزر الفواصل والإيقاع وحروف اللين والشدة لإحداث انفعال يسبق الوعي التحليلي بالمعنى. إن انتظام الفاصلة في سور قصيرة مثل “الضحى” و“الليل” يخلق إيقاعًا لا يقتصر على موسيقى الأذن، بل يتّخذ وظيفة دلالية: فتماثل خاتمة الآيات يُرسّخ تدرّج الحُجّة ويُحكم إحكامها، فيما توظيف الصوامت المجهورة والمهموسة يلوّن الانطباع النفسي؛ فالتتابع الرقيق في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} يشيع أفقًا من الرِّفق ينسجم مع المقصود الأخلاقي للنص. وفي المقابل تُوظَّف الأصوات الشديدة لإيصال معنى القوة أو الرهبة في مواضع الوعيد أو تصوير الوقائع الكونية. هذا التعاون بين الصوت والمعنى يجعل الموسيقى الداخلية جزءًا من الحجة، لا زينة لاحقة عليها.
وعلى المستوى الصرفي تتبدّى البلاغة في دقة اختيار الأوزان ومقاديرها الزمنية. فالعدول من المضارع إلى الماضي أو العكس ليس حركةً اعتباطية، بل هو تأشير على منظور الخطاب وزمنه النفسي؛ فالمضارع يُحضر الفعل ويستديم حركته، والماضي يقطّع الحدث ويوثّقه كأنه رأي العين. ومن هنا تأتي القيمة البلاغية لانتقال الضمائر وتحوّلات الخطاب—الالتفات—الذي يُحدث يقظة المتلقي ويجدّد زاوية النظر. ففي سورة الفاتحة، يبدأ الخطاب بحمد الغائب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم ينعطف إلى مواجهة المخاطَب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وكأن السامع انتقل من التعريف إلى التعاهد، ومن التأمل إلى العهد المباشر. هذا التحوّل ليس تلوينًا أسلوبيًّا فحسب، بل يواكب التحوّل في الوظيفة التواصلية: من الثناء إلى الالتزام.
أما في علم المعاني، فتتجلّى البلاغة في إحكام مقتضى الحال: تقديم ما حقّه التأخير، والتعريف والتنكير، والحذف والإيجاز، وربط الجمل وفق مقتضيات المقام. فالتقديم يفيد الحصر حينًا والعناية حينًا آخر، مثل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حيث تقدّم المفعول به لإفادة الاختصاص؛ فلا عبادة إلا له. والحذف—وهو ضرب من الإيجاز—لا يقع إلا حيث يُغني المقام عن المذكور، فيتولّد من السكوت معنى أبلغ من التصريح. ومثال ذلك أن جوابًا محذوفًا قد يُفهم من سياق تهويل أو تقريع فيرسم فراغ الكلام صورةً في ذهن السامع أكثر اتساعًا من أي عبارة محدودة. ويُعدّ هذا الضرب من الإيجاز إحدى خصائص البيان القرآني، إذ يوفّق بين اقتصاد اللفظ وغنى الدلالة.
وفي علم البيان، تتبدّى أدوات التشبيه والاستعارة والكناية في أدائها دورًا تصويريًّا ومعرفيًّا معًا. فالاستعارة القرآنية لا تنقل الصورة فحسب، بل تنقل معها شبكة خصائص تُعيد تصنيف الظاهرة في وعي المتلقي. حين يُصوَّر الباطل بالزَبَد العابر على السيل، يكتسب القارئ ليس هيئةً مائية عارضة فقط، بل علاقة بين الثقل والخفة، والدوام والزوال، فيتأسس معيار تقويم معرفي وأخلاقي في آن. وحين تُستعار الحركة المادية للقلوب—{تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}—فإن ذلك يربط الإدراك النفسي بتجربة حسّية معاشة، فيقرب المعنى المجرد إلى المخيال. والكناية، من جانبها، تسمح بإيصال معنى مع الحفاظ على ستر المقصود أو تأخيره قصدًا لإثارة الذهن، فتتوافر طبقات من الدلالة تتفاوت باختلاف خبرة المتلقي.
أما البديع، فهو ليس ترفًا لفظيًّا أو صنعة زخرفية، بل جزء من الاقتصاد الدلالي حين يُحسن توظيفه. الجناس والطباق والمقابلة تعمل على شدّ الانتباه وإبراز التباينات المفهومية دون إخلال بسلامة المعنى. فإذا ورد طباق بين الهدى والضلال أو بين الحياة والموت، فإن التنامي الإيقاعي يواكب تقابل القيم ويُيسّر تثبيت الثنائية في الذهن. والسجع—حين يقع في مقام القَصَص أو التقريع—يسهم في إحكام البنية وتذكير السامع بالعُقَد الدلالية في كل مقطع، لكن القرآن يتنزّه عن السجع المقيّد الذي يفرض المعنى على القالب؛ بل يأتي انتظام الفواصل تابعًا للمعنى، لا حاكمًا عليه.
ومفهوم النَّظم، وهو حجر الزاوية، يعقد وشائج وثيقة بين التركيب والدلالة والسياق. النظم القرآني لا يُفهَم تمامًا إلا إذا استُحضر اتصال الآية بما قبلها وبعدها، وما بين السورة الواحدة من علاقات تناسق وتناسب—أحيانًا في هيئة إحاطة حلقية—تجعل المطلع والختام يضمّ بعضهما بعضًا. في سورة قصيرة كسورة “الكوثر” يتكثّف هذا كله: قِصَر الألفاظ، وامتلاء الدلالة، وانتظام الفواصل، وتوازن البناء بين عطاءٍ إلهيّ وشكرٍ تعبّديّ وقطعٍ لذِكر العدو، فتقوم بنيةٌ مكتملة بالحدّ الأدنى من العبارة. وهذه خاصية “الإيجاز المُمكّن”: قلّة اللفظ مع كثرة المعنى وحسن التصرّف في المقادير.
ولا تنفصل البلاغة القرآنية عن مقامية الخطاب وتاريخ نزوله؛ فاستحضار أسباب النزول ليس غايةً تفسيرية فحسب، بل مفتاح بلاغي لفهم لماذا اختير هذا التركيب دون غيره في لحظة تواصلية بعينها. فالخطاب المكي، الغالب عليه التقعيد الإيماني والتذكير بالآيات الكونية، يميل إلى القِصر والجرس القوي والصور الكونية الرحبة، بينما الخطاب المدني الذي يتناول التشريع وبناء الجماعة يميل إلى بسط القول وتفصيل الأحكام وتلطيف الإيقاع بما يلائم مقام البيان والتقنين. ومع ذلك يظلّ الجامع البلاغي حاضرًا: الاقتصاد حيث ينبغي، والاسترسال حيث تقتضيه الحُجّة، وتلوين الأسلوب على مقتضى المخاطِب والمخاطَب والموضوع.
ومن أدوات الحجاج البلاغي الأسئلة الإنكارية والاستفهام التقريري والتعجيب؛ فهي تنقل السامع من موقع المتلقي السلبي إلى فاعلٍ يجيب ضميره قبل لسانه. {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} ليس مجرد مقارنة لفظية، بل هو تفكيك منطقي لأساس الشِّرك عبر سؤال لا يحتمل إلا جوابًا واحدًا يقرّ به العقل قبل أن يلوكه اللسان. كذلك تُسهم الأقسام في بناء مسار الحُجّة وتثبيت مقدماتها النفسية والمعرفية قبل إطلاق النتائج، فيأتي جواب القسم كخاتمة برهانية لا كخبر عابر.
وتظهر البلاغة أيضًا في “تلاؤم الطبقات”؛ أي قدرة النص على مخاطبة مستويات متعدّدة من الوعي والذائقة. فالقارئ العام يلتقط الإيقاع والصورة والقصة، والخبير يستخرج دقائق الصناعة من تقديمٍ وتعريفٍ وحذفٍ وتضمين، والمتأمّل في العلوم الإنسانية يقرأ تشكّل القيم والمعايير عبر المجازات الكبرى. هذا التعدّد ليس تراكب طبقات متنافرة، بل تكامل مستويات تُحكمها قاعدة واحدة: كل عنصر في مكانه الذي يُعطيه أقصى فاعلية بأقل كلفة لفظية.
وإذا كانت البلاغة العربية الكلاسيكية قد صنّفت أدواتها في المعاني والبيان والبديع، فإن لغة القرآن تدفع الدارس المعاصر إلى توسيع العدسة لتشمل مفاهيم اللسانيات النصية—التماسك والاتساق، الإحالة والربط، إدارة المعلومات ومواضع البؤرة—إذ تتضافر هذه جميعًا لتفسير كَيفية بقاء النص فاعلًا في سياقات تداولية متجدّدة. ومع التطورات الحديثة في تحليل الخطاب والصوتيات والإيقاع، يُتاح للباحث تفصيل أدقّ في العلاقة بين البنية الصوتية والوظيفة الدلالية، وفي رصد “اقتصاد الجهد الإدراكي” الذي يفسّر لماذا يصل المعنى في التراكيب القرآنية بأيسر سبيل إلى ذهن السامع رغم علوّ المقام وعمق الدلالة.
خلاصة القول إن البلاغة في لغة القرآن ليست محصّلة تجميلية، بل نظام تواصل مُحكَم ينسّق المستويات الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية والحجاجية، بحيث يُنتج خطابًا ذا كثافة معرفية وعاطفية معًا. هذا النظام يقوم على النَّظم بوصفه نظرية في توزيع العلاقات، وعلى مقتضى الحال بوصفه مرشدًا لاختيار الصيغ، وعلى التصوير البياني بوصفه جسرًا بين المجرّد والمحسوس. ومن ثمّ تبقى دراسة البلاغة القرآنية مجالًا مفتوحًا للتكامل بين التراث النقدي العربي واللسانيات الحديثة، بما يحفظ خصوصية النص ويُتيح أدوات أدقّ لكشف أسرار أدائه. بهذه الرؤية يغدو “الإعجاز البلاغي” توصيفًا علميًّا لاقتصاد التعبير وثراء الدلالة، لا دعوى إنشائية؛ إذ تُثبت الوقائع النصية نفسها بما فيها من دقة اختيار، وحكمة ترتيب، وملاءمة مقام، وانسجام مستويات، وتلك هي البلاغة حين تُدرك في صورتها الأتم.