المنظومات البصرية والذكاء الاصطناعي

المنظومات البصرية والذكاء الاصطناعي

المنظومات البصرية والذكاء الاصطناعي


 

بقلم : ا.م.د. صفاء مصطفى حميد

مساعد رئيس الجامعة للشؤون العلمية

يُعدّ الدمج بين المنظومات البصرية والذكاء الصناعي اليوم من أكثر مسارات البحث العلمي حيويةً، إذ انتقلنا من الكاميرا بوصفها أداةً “تلتقط” العالم إلى منظومةٍ متكاملة “تفهمه” وتُعيد تشكيله. في المنظومات البصرية التقليدية تُحدِّد العدسات والمرايا والمرشّحات حدود ما يمكن قياسه من حيث الدقة والحيّز الديناميكي والوزن والحجم والتكلفة. غير أن هذه الحدود الفيزيائية، بما فيها أثر الحيود والضجيج وعوامل اللا مثالية في التصنيع، لم تعُد قيدًا صارمًا بعد ظهور التصوير الحاسوبي والتعلّم العميق. هنا يظهر الذكاء الصناعي كطبقة استدلال تعيد بناء المشهد من قياسات ناقصة أو مشوّشة، أو كجزء من تصميم مشترك ينسّق فيه المهندس بين ما تقوم به البصريات في الأمام وبين ما تتكفّل به الخوارزمية في الخلف، بحيث يَخدم العتادُ الهدفَ الخوارزمي منذ اللحظة الأولى لتشكُّل الإشارة.

من الناحية الرياضية يمكن تقريب عملية التصوير الخطي باعتبار الصورة المقاسة التفافًا للمشهد الحقيقي مع دالة الاستجابة النقطية إضافةً إلى الزيوغ، فتُصاغ المسألة إمّا كتحسين مُقيّد بأولوية إحصائية تُنظِّم الحل، أو تُستبدل بخريطة تعلّم عميق تتعلّم تحويل القياسات إلى إعادة بناء موثوقة. وفي السنوات الأخيرة اتجهت الأبحاث إلى إدخال الفيزياء ذاتها في قلب نموذج التعلّم عبر ما يُعرف بفكّ التحسين على شكل طبقات قابلة للتدرّب، الأمر الذي يمنح الخوارزمية قابلية تفسير أعلى واستقرارًا أفضل عند تغيّر ظروف الالتقاط.

هذا التلاقح بين البصريات والخوارزميات لا يحدث في الفراغ، بل يستند إلى ثورة موازية في المنظومات. فقد أتاح ظهور الميتا-سطوح والعناصر الفوقية ضبط الطور والاستقطاب والطول الموجي عبر بنى نانوية رقيقة، فصار من الممكن تصنيع “عدسات مسطّحة” خفيفة تؤدي وظائف مركّبة يستحيل تحقيقها بعدسات زجاجية سميكة وحدها. كما ظهرت مستشعرات غير تقليدية، مثل كاميرات الحدث التي تُشفِّر التغيّر الزمني بدل الإطارات المتتابعة، وكواشف الفوتونات الأحادية التي تسمح بالعمل عند سوية إضاءة متدنية للغاية، بالإضافة إلى مصفوفات طيفية واستقطابية مدمجة. وتزامن ذلك مع تكامل ضوئي–إلكتروني يمكّن من إجراء تحويلات خطية بكلفة طاقية أقل بكثير من نظيراتها البحت-إلكترونية، ما يمهّد لطيف واسع من التطبيقات المحمولة وعلى الحافة.

على مستوى التطبيقات، غيّر التصوير الحاسوبي معادلة الجودة في ظروف الإضاءة الضعيفة أو الحركة السريعة؛ إذ بات من الممكن إزالة التمويه وتعويض الضجيج وإعادة التفاصيل دون اللجوء إلى بصريات ضخمة أو زمن تعريض طويل. وفي التصوير الطيفي والاستقطابي توفّر القياسات المضغوطة—حيث يُبرمج القناع البصري بحيث يُسجَّل مزيج ذكي من المعلومات—مكعّبًا طيفيًا قابلًا للاسترجاع بخوارزمية تعلّم، فتُستخلص دلالات كيميائية أو بنيوية قيّمة في الطب والفحص غير الإتلافي والاستشعار البيئي. وتستفيد المركبات الذاتية من هذه القفزة عبر رؤية حاسوبية تعمل في الزمن الحقيقي على تدفقات نقاط ثلاثية الأبعاد، حيث تُرشَّح الضوضاء وتُستخرج السمات البنيوية القابلة لاتخاذ القرار بسرعة وأمان أعلى.

في المجهرية الحيوية، مثّل الدمج بين الإنارة المهيكلة والتعلّم العميق نقلة نوعية؛ إذ يُصمَّم نمط الإضاءة ليكشف معلومات يَسهُل على الشبكة إعادة بنائها بجرعة فوتونية أقل، فتُحفَظ سلامة العينات وتُضاعَف الدقة المكانية والزمانية. ويمتد هذا المنطق إلى تصميم المنظومات نفسها، حيث تُعامَل مواصفات المكوّنات الضوئية—من قناع الطور إلى هندسة الميتا-سطح—كمعاملات قابلة للتعلّم داخل مسار تدريب موحّد هدفه النهائي ليس “حدة الصورة” فحسب، بل دقة المهمة المرجوّة مثل التصنيف أو تقدير العمق أو تحديد الأطياف. بهذه الطريقة تصبح دالة الاستجابة النقطية “مُوجَّهة بالمهمة”، أي أنها تُشفر منذ البداية ما يساعد الخوارزمية لاحقًا على فك الالتباس.

يتقدّم المشهد أكثر مع الشبكات العصبية الضوئية التي تستغل التداخل والحيود لتنفيذ ضربات مصفوفية على الضوء نفسه. هذه المعالجات الفوتونية تعد بتسارع هائل وكفاءة طاقية عالية، إلا أنها تواجه تحديات عملية مثل الانجراف الحراري ودقة الضبط ومعايرة الضوضاء. ومع ذلك، فإن الجمع بين الضبط الإلكتروني والمكوّنات الضوئية القابلة لإعادة التهيئة يفتح الباب لأنماط هجينة تُجري العمليات الكثيفة بصريًا مع الحفاظ على مرونة التعلم والتكيّف.

على الرغم من هذا الزخم، تبقى الاعتمادية وقابلية التعميم عقدتين مركزيتين. فالنماذج المدربة على ظروف إضاءة أو طيف أو حرارة محددة قد تتدهور خارج نطاق تدريبها، كما أن الانحياز في البيانات قد ينعكس قرارات رؤية غير منصفة في تطبيقات حساسة كالقيادة والطب. يضاف إلى ذلك خطر الهجمات الخصامية التي قد تستغل هشاشة المنظومة أمام تغييرات بصرية طفيفة، وكذلك الكلفة الطاقية والبيئية لتدريب نماذج كبيرة وما يرافقها من متطلبات معايرة مستمرة مع تغيّر خصائص العناصر الضوئية بمرور الوقت. لهذا يغدو التقييم المنهجي—بمقاييس نوعية الصورة ومقاييس المهمة النهائية معًا—واختبارات “خارج التوزيع” ومعايرة المختبر والميدان، جزءًا لا يتجزأ من أي خط تطوير جاد.

المستقبل القريب مرشّح لمزيد من الاندماج “من العدسة إلى التعلّم”، حيث تُصاغ مسألة التصميم كتحسين احتمالي يعظّم المعلومات المتبادلة بين المشهد والقياسات، وتُضمَّن قيود التصنيع منذ البداية كي تتطابق النماذج مع الواقع لا مع المحاكاة فقط. وستتقدّم تقنيات الاستشعار الحدثي ونماذج السلاسل الزمنية لتخفيض الكمون واستهلاك الطاقة، فيما تتطور المعالجات الفوتونية العصبية نحو مصفوفات أكثر استقرارًا ودقة ضبط أعلى. وفي المقابل ستتجه النماذج إلى القِصر والكفاءة عبر تقنيات الضغط وتحويل المعرفة والكمّية ليصبح الاستدلال ممكنًا مباشرة على الحافة البصرية دون الحاجة إلى سحابة دائمًا.

خلاصة القول إن التزاوج بين المنظومات البصرية والذكاء الصناعي أعاد تعريف ما يمكن للآلة أن “تراه” وما ينبغي لها أن “تفهمه”. لقد خرجنا من أسر البصريات الساكنة إلى فضاء التصميم الغائي الذي يُعيد توزيع الأدوار بين العتاد والخوارزمية وفقًا لغرض المهمة. وما بين عدسات رقيقة متعددة الوظائف، ومستشعرات غير تقليدية، وشبكات عميقة مفسَّرة فيزيائيًا، تتشكّل طبقة جديدة من التصوير الحاسوبي قادرة على العمل في ظروف كانت تُصنَّف حتى وقت قريب “مستحيلة”. غير أن الطريق إلى أنظمة موثوقة وعادلة وآمنة يمرّ حتمًا عبر مزيد من الانضباط التجريبي، ومراجعة الانحيازات، وبناء نماذج تتكئ على الفيزياء بقدر ما تتعلّم من البيانات، حتى نستوفي وعود هذا المجال دون التفريط بسلامة الإنسان وموثوقية القرار.