النظام المحاسبي واهميته في الجامعات العراقية

النظام المحاسبي واهميته في الجامعات العراقية

النظام المحاسبي واهميته في الجامعات العراقية


 

بقلم: المدرس المساعد أسامة محمود خضير

ماجستير محاسبة
تزداد أهمية النظام المحاسبي في الجامعات العراقية كلما تعقّدت أدوار هذه الجامعات وتوسّعت مصادر تمويلها وتعددت برامجها. فالجامعة اليوم ليست مجرد قاعات درس ومختبرات، بل مؤسسة عامة تقدّم خدمة تعليمية وبحثية ومجتمعية، وتتعامل يوميًا مع موازنات تشغيلية ومشاريع استثمارية ومنح بحثية وإيرادات ذاتية مثل التعليم الموازي والتعليم المستمر والاستشارات. في هذا السياق يصبح النظام المحاسبي بمثابة البنية التحتية الخفية التي تُمسك بخيوط الموارد وتحوّل الأرقام إلى رؤية واضحة تساعد الإدارة على التخطيط الرشيد وضبط التكاليف وتعزيز الشفافية والامتثال للأنظمة، بما ينعكس في النهاية على جودة الخدمات المقدَّمة للطلبة والباحثين والمجتمع.

يعتمد نجاح الجامعة في التخطيط المالي على قدرتها على قراءة مواردها ونفقاتها قراءة دقيقة، وهذا ما يوفّره النظام المحاسبي عندما يُصمَّم على أسس علمية تراعي طبيعة القطاع العام. فالمحاسبة في الجامعات لا تُقاس بمنطق الربح والخسارة فقط، بل بمنطق المساءلة عن المال العام وتوجيهه نحو أهداف أكاديمية واضحة. ومن هنا تظهر قيمة المواءمة التدريجية مع معايير المحاسبة الدولية للقطاع العام (IPSAS) بوصفها إطارًا يساعد على توحيد التعاريف وتحسين الإفصاح وتمكين المقارنة عبر الزمن وبين الجامعات، دون الإخلال بالتعليمات الوطنية النافذة. ومع وجود هذه المرجعية يصبح إعداد الموازنة عملية تشاركية أكثر نضجًا: تُحدَّد فيها الأولويات البحثية والأكاديمية، وتُبنى السيناريوهات الواقعية للإنفاق والإيراد، وتُرصد المخاطر مبكرًا، وتُتخذ القرارات بناءً على بيانات لا على حدس أو انطباع.

ولا تتوقف وظيفة النظام المحاسبي عند حدود التخطيط، بل تمتد إلى الرقابة اليومية على التكاليف من خلال تتبع المصروفات بحسب مراكز التكلفة الطبيعية في الجامعة مثل الكليات والأقسام والمختبرات والمشاريع البحثية. هذا التتبّع يمكّن الإدارة من اكتشاف مواطن الهدر، ومقارنة المنفَذ بما خُطِّط له، وتحليل الانحرافات بموضوعية، ثم اتخاذ إجراءات تصحيحية سريعة قبل أن تتفاقم الفجوات. كما يتيح النظام المحاسبي للإدارة العليا ولوحدات الجامعة المختلفة لوحات معلومات محدثة تعطي صورة مباشرة عن كلفة الطالب أو المقرر، ومعدلات الصرف، ومستوى السيولة، والتزامات الموردين، وموقف المنح البحثية من حيث الصرف والإنجاز. وعندما تَظهر هذه المؤشرات بانتظام وبأسلوب بصري مفهوم، تصبح الاجتماعات أقصر والقرارات أدق والحوكمة أقوى.

ومن الجوانب التي كثيرًا ما تُهمل رغم أهميتها إدارة الموجودات. فالأجهزة العلمية والمختبرات والبنية التحتية تشكّل ثروة الجامعة، وإدارتها تتطلّب سجلًا محاسبيًا يضمن القيد السليم، وجدولًا واضحًا للإهلاك والصيانة، وآليات جرد دقيقة تقلّص فجوة المعرفة بين ما هو مثبت على الورق وما هو قائم على الأرض. وينطبق المنطق ذاته على إدارة المنح والمشاريع البحثية؛ إذ يحتاج كل تمويل إلى دورة حياة مالية منفصلة تضمن التتبّع من لحظة التعاقد وحتى الإقفال النهائي، مع وضوح القيود المحاسبية والإفصاح عن الشروط والالتزامات. وبهذا الفصل الدقيق تتعزز الثقة بين الجامعة والجهات المانحة، ويتقلص احتمال تداخل الأموال أو إساءة استخدامها.

ولأن الجامعة منظومة مترابطة، فإن التكامل بين النظام المحاسبي وبقية أنظمة المعلومات—كشؤون الطلبة والرواتب والمخازن والمشتريات—ليس ترفًا تقنيًا بل ضرورة لتقليل الإدخال المزدوج والأخطاء اليدوية، ولتسريع دورة العمل من طلب الشراء إلى الاستلام ثم الدفع والتسوية البنكية. ومع التحوّل الرقمي يصبح من الممكن أتمتة الموافقات بحسب الصلاحيات، وربط المدفوعات إلكترونيًا بالمصارف، وتنفيذ التسويات المصرفية بصورة شبه آلية، وإتاحة التقارير في وقت قريب من اللحظة الفعلية. ويعزّز كل ذلك حوكمة البيانات عبر قواميس وتعريفات موحّدة وصلاحيات مضبوطة وسجلات تدقيق تُظهر من فعل ماذا ومتى، بما يرفع منسوب الشفافية ويقلّل فرص الخطأ أو التلاعب.

غير أن بناء نظام محاسبي متين لا يتحقق بالبرمجيات وحدها؛ فالنصيب الأكبر من النجاح يعود إلى الإنسان والإجراء. وجود دليل سياسات وإجراءات مكتوب ومفهوم، وفصل مناسب للمهام بين التسجيل والموافقة والتسوية والمراجعة، وبرامج تدريب مستمرة للمحاسبين ولمدريري المشاريع، كلها عوامل تحوّل النظام من مجموعة شاشات وتقارير إلى ممارسة مؤسسية راسخة. كما أن إدارة المخاطر يجب أن تكون جزءًا أصيلًا من الثقافة اليومية، عبر خرائط واضحة لمخاطر السيولة والامتثال والاحتيال والأعطال التقنية، وخطط استجابة تُختبر دوريًا لضمان الجاهزية. وعندما تُترجم هذه الثقافة إلى مؤشرات قياس عملية—مثل زمن إقفال الشهر وإصدار التقارير، ودقة القيود، ومتوسط أيام التحصيل والدفع، ونسبة الانحرافات غير المبررة عن الموازنة، ونسبة الأصول المجرَّدة فعليًا—تصبح الحوكمة قابلة للقياس لا مجرد شعارات.

في بيئة الجامعات العراقية، التي تعمل غالبًا تحت قيود مالية وتنظيمية وضغوط مجتمعية متزايدة، يبرز التحوّل الرقمي المحاسبي كرافعة أساسية لتحسين الكفاءة. ويمكن تبني نهج تدريجي يبدأ بالوحدات الأعلى عائدًا مثل المشتريات والمخزون وإدارة المنح، مع بناء وحدة صغيرة لذكاء الأعمال المالية تتولى تصميم لوحات المعلومات ومؤشرات الأداء والتنبؤات قصيرة ومتوسطة المدى. وسيواجه هذا التحوّل مقاومة طبيعية للتغيير، لكنّ إشراك أصحاب المصلحة وتهيئة “سفراء تغيير” داخل الكليات والأقسام وتوفير تدريب عملي مستمر كفيل بتذليل العقبات، خاصة إذا اقترن ذلك بنشر تقارير مالية مختصرة للعموم تعزز الثقة والمسؤولية المجتمعية.

وعلى المدى الأبعد، ستستفيد الجامعات من مواءمة تقاريرها وممارساتها تدريجيًا مع IPSAS بما يتيح مقارنة أفضل وأفصح بين السنوات والجامعات، ويجعلها أكثر جاهزية للتعامل مع الجهات الرقابية والمانحة. كما أن بناء علاقة متينة مع القطاع المصرفي عبر بوابات دفع إلكترونية سيحسّن التحصيل ويقلّل الاعتماد على النقد، ويختصر زمن الدورة المالية. وكلما تقدمت الجامعة خطوة في هذه المسارات، انعكس ذلك مباشرة على جودة الخدمة التعليمية والبحثية: تجهيز مختبرات بكفاءة أعلى، دعم الباحثين بمنح مدارة بعناية، وإدارة برامج أكاديمية تتخذ قراراتها على أساس بيانات دقيقة لا على الحدس.

خلاصة القول إن النظام المحاسبي في الجامعة ليس دفترًا لتسجيل القيود ولا برنامجًا للتقارير فحسب، بل هو منظومة استراتيجية تعيد صياغة العلاقة بين المال والهدف الأكاديمي. إنه الأداة التي تترجم رؤية الجامعة إلى أرقام قابلة للقياس، وتحوّل الأرقام إلى قرارات قابلة للتنفيذ، وتحوّل القرارات إلى أثر ملموس في قاعة الدرس والمختبر والمجتمع. وفي السياق العراقي على وجه الخصوص، حيث الحاجة ملحّة لتعظيم الأثر ضمن موارد محدودة، يصبح الاستثمار في تطوير النظام المحاسبي—بأبعاده المؤسسية والرقمية والبشرية—استثمارًا في الاستدامة والتميّز، وخطوة ضرورية على طريق جامعة أكثر شفافية وكفاءة وثقة لدى الجميع.